المواطن المسلم في قريةٍ عالميةٍ

    المواطن المسلم في قريةٍ عالميةٍ

    لماذا؟ 

    لماذا يُبتلى المسلمونَ اليومَ بالمِحنِ والفِتنِ والشقاق، وكيفَ للمسلمِ أن يرى نفسهُ في القريةِ العالميةِ الحديثةِ؟ 

    المسلمونَ ضدَّ الغربِ؟ 

    على الرغمِ منَ أننَّا نسمعُ الكثيرَ منَ الحديثِ يدورُ حولَ الخلافِ بينَ المسلمينَ والغربِ، ولكنَ هل هيَ حقًا مشكلةُ استقطابٍ جغرافيٍ؟ باعتبارِ أنَّ ملايينَ المسلمينَ يعيشونَ في الغربِ والملايينِ من غيرِ المسلمينَ يعيشونَ في البلادِ الإسلاميةِ، إذ أنَّ القريةَ العالميةَ قد قرَّبت الناسَ من بعضهمُ البعض، فلم يعد الشرقُ والغربُ متباعدينَ كما مضى.

    ولربما هذهِ هيَ المشكلةُ، إذ أنَّ المشاكلَ والاضطراباتَ في “القريةِ” تؤثرُ على الجميعِ ولا يمكنُ أنْ نتراجعَ ونشاهدَ الناسَ يفنونَ بعضهمُ البعضَ بالتفجيراتِ، لأنَّ الجميعَ سيؤُذى.

    ولحلِ مشاكلِ الحاضرِ، فإنهُ يتوجبُ على مفكري المسلمينَ وقادتهم أن يحللوا حقائقَ هذا الوقتِ، وأن يطوروا حلولاً واستراتيجياتٍ تناسبُ المكانَ والزمانَ الذي نعيشُ به.

    إنَّ الاعتمادَ المتبادلَ بينَ الأممِ والمجتمعاتِ يؤكدُ على أهميةِ تبنينا لرؤيةٍ عالميةٍ تجاهَ التحدياتِ التي تواجهُ البشريةَ جمعاءَ. 

    القريةُ العالميةُ محدودةٌ

    إنَّ كلمةَ “العولمةِ” تُفهمُ على أنها عمليةُ انتشارِ المؤسساتِ التجاريةِ أو الاجتماعيةِ وتأثيرها على مستوىً عالميٍ. ولكنَ الحقيقةَ لا تتفقُ تمامًا مع هذا التعريفِ. فإذا ما نظرنا إلى الكمِّ من أجزاءِ العالمِ الذي يعاني منَ الفقرِ، فإنَ القريةَ العالميةَ تبدو أكثرَ منطقيةً للأممِ المتطورةِ، إذ أنهُ لا يكفي أن تكونَ هناكَ لوحةُ ماكدونالدز أو كوكاكولا أو بنك HSBC في الشوارعِ الرئيسيةِ.

    في الحقيقةِ، إنَ الكثيرَ منَ الناسِ يقدمونَ نظريةَ “القريةِ” على أنها مبدأٌ يجبُ أن ينبهَ الناسِ إلى أنَ كثيرًا من جيرانهم ينتمونَ إلى جزءٍ من هذهِ القريةِ، حيثُ لا يزالُ يتوجبُ على الرجلِ أن يحتطبَ أو أن يتسوّلَ ليطعمَ عائلتهُ، وحيثُ لا توجدُ أنظمةُ صرفٍ صحيٍ. 

    الوحدةُ السياسيةُ؟ 

    وعلى المستوى السياسيِّ، فإنَّ الديموقراطيةَ لا تزالُ سمةً لما يدورُ في أذهانِ الناسِ حينَ نتحدثُ عنِ القريةِ العالميةِ، إذ لا يستوي أن يكونَ جزءٌ منَ القريةِ تحتَ حكمٍ عسكريٍ وجزءٌ آخر ينتخبُ وزراءهُ المحليينَ. إنَّ الذي سيحدثُ حينها هوَ ما يحدثُ في العراقِ اليومَ. الفوضى، وانعدامُ النظامِ السياسيِّ، وكلُ عواملِ الحربِ الأهليةِ. إنَّ الحقيقةَ هيَ أنَ الديمقراطيةَ ما زالت حلمًا بعيدَ المنالِ لكثيرٍ من دولِ العالمِ.

    هل ستكونُ جيدةً أم لا؟ 

    إنَّ إحدى الرؤى للقريةِ العالميةِ قد تحققت، فالعالمُ اليومَ قد يصبحُ مجتمعًا واحدًا يُخدمُ بنفسِ الإعلامِ الإلكترونيِ وتقنيةِ المعلوماتِ ويدارُ بنظامٍ سياسيٍ واحدٍ، وعندما تتحققُ هذهِ الفكرةُ، لا بدَّ وأن نسألَ سؤالاً محوريًا، ألا وهوَ: هل ستكونُ النتيجةُ جيدةً أم سيئةً؟ وهل ستحققُ السلامَ العالميَّ أم أنها ستهددُ حريةَ التعبيرِ؟ وهل ستمنحُ حقَ تحديدٍ المصيرِ للإنسانيةِ؟ وماذا عنِ الدينِ؟ أينَ سيكونُ مكانهُ حينها؟

    المسلمُ كمواطنٍ عالميٍ

    في الحقيقةِ لا يوجدُ مجتمعٌ مهيأٌ ومُجهزٌ للمعيشةِ في القريةِ العالميةِ بقدرِ الأمةِ الإسلاميةِ.

    إنَّ التعليماتِ التي يحوزها المسلمونَ ليعيشوا بينَ الناسِ من أديانٍ مختلفةٍ وأنظمةِ قبليةٍ متعددةٍ لهَيَ النموذجُ الأمثلُ لهذا الزمنِ، وللمستقبلِ أيضًا، حتى وإنْ أصبحَ العالمُ مُوَّحدًا تحتَ نظامٍ عالميٍّ واحدٍ.

    إنَّ المشكلةَ هيَ أنَّ المسلمينَ قد اعتادوا مشاهدةَ التغييراتِ العالميةِ دونَ المساهمةِ فيها لحلِّ أيِّ منَ التحدياتِ. إنَّ المعضلةَ تكمنُ في أننا قد أصبحنا منعزلينَ ومنكفئينَ على أنفسنا. متناسينَ المسؤوليةَ العالميةَ التي تقعُ على عاتقنَا كعبادٍ لربِّ العالمينَ، ومتبعينَ لهديِ الرسلِ أجمعينَ الذينَ كانَ آخرهمُ محمدٌ ﷺ، إذا قال النبي ﷺ “كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيتهِ”

    أمةً وسطًا 

    معَ الأسفِ فإنَّ معظمَ منظماتنِا ومؤسساتنا قد صممت لخدمةِ الحاجاتِ المحليةِ، ولكنَّ الارتباطَ بالإثنيةِ العرقيةِ والسلوكياتِ العاميةَ يؤثرُانِ بشكلٍ عميقٍ على قدرتنا على التأثيرِ على حضارةِ الإنسانيةِ بالعمومِ، ولا تتفقُ مع المتطلباتِ العالميةِ لديننا القيِّم.

    وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ(سورة البقرة: الآية 143)

    فإنَّ النبيَّ ﷺ كانَ الرسولَ الخاتمَ الذي أُرسلَ للبشريةِ جمعاءَ وقد ساعدَ الكلَّ ولم يحصر عملَ الخيرِ والنصيحةِ على المسلمينَ فقط. إنَّ اسمَ الدينِ بحدِ ذاتهِ لا يُحصر في شخصٍ أو مكانٍ أو قبيلةٍ. إنه حالةٌ من الانفتاح على الجميعِ وإنَّ المعنى الحرفيَّ للاسمِ هوَ الدخولُ في السلمِ والأمنِ.

    التعليمُ 

    نعيشُ اليومَ في زمنٍ قد تكونُ مهمتنا الأساسيةِ فيهِ هيَ عدمُ التنافسِ في استهلاكِ منتجاتٍ أكثرَ أو بناءِ أبراجٍ اسمنتيةٍ أكبرَ، ولكنْ لنهتديَ بأفعالِ المجتمعِ المثاليِ الأولِ فلا بدَّ أن ندعو الآخرينَ لتعلمِ ما لدينا من معارفَ. لا بدَّ وأن نصبحَ أكثرَ ذكاءً وأصحابَ إيمانٍ أقوى وأخلاقٍ أفضل. ولا بدَّ أن نكونَ متشوقينَ لتطويرِ أحوالِ الإنسانيةِ أولاً باستخدامِ أعظمِ هديةٍ مُنحناها. ولذا فإنَّ التعليمَ هوَ أقوى أداةٍ للتغييرِ على الإطلاقِ، فنحنُ نتملكُ هذهِ الأداةِ ويجبُ علينا توظيفها. 

    إنَّ إرسالَ أبناءنا لمدارسَ أمريكيةٍ أو إنجليزيةٍ دونَ تهيئةٍ مسبقةٍ كمسلمينَ لن يكونَ هوَ الحلُ، إذ سيعودونَ مؤمنينَ بفكرةِ أنَّ الخطأ يكمنُ في ناحيتنا منَ القريةِ، فنحنُ بالتأكيدِ لا نعيشُ في المدينةِ المنورةِ.

    مكةَ، وليس المدينةَ 

    وعلى الرغمِ من أنَّ الإنسانيةَ تبدو متقدمةً إلا أنَّ البعضَ يقولُ أنَّ التأقلمَ مع تحدياتِ العصر ِالحديثِ (أو ما يسميهِ مارشال ماكلوهان بالقريةِ العالميةِ) مرتبطٌ بفهمنا أنَّ المسلمينَ يعيشونَ في عصرٍ يُمثلِ المرحلةَ المكيَّةَ من الإسلامِ، أي الفترةَ الأولى منَ الإسلامِ أكثرَ من تمثيلهِ للمرحلةِ المدنيةِ أو ما بعدها. 

    الجاهليةُ 

    خلالَ المرحلةِ المكيةِ، كانَ المناخُ الثقافيُ السائدُ حينئذٍ ملتبسًا، فقد أظهرَ العديدَ منَ العاداتِ المختلطةِ وكانَ يسودهُ الجهلُ بالحقائقِ الروحانيةِ، أو ما قد يسميهِ البعضُ بـ “الحقيقةِ”.

    إنَّ الاسمَ الذي أُعطيَ لتلكَ الفترة ِكانَ “الجاهليةَ”، وكانَ الإسلامُ حينئذٍ -بالطبعِ- يُرى غريبًا، وهذا يعدُّ سببًا آخرَ لتشابهِ صورةِ الإسلامِ اليومَ مع أيامِ الجاهليةِ، لأنَّ الإسلامَ يُعرض اليومَ كشيءٍ غريبٍ. 

    إنَّ الدورَ الأساسيَ للمسلمينَ في ذلكَ الوقتِ لم يكن بناءَ مجمعاتِ التسوقِ، بل دعوةِ الإنسانيةِ لدخولِ حالةِ السلامِ الداخليِّ، أي الإسلامُ. وقبولُ وجودِ إلهٍ واحدٍ والإيمانِ برسولهِ محمدٍ ﷺ، ومن ثمَّ خلقُ حالةٍ منَ العدالةِ والتوازنِ الاجتماعيِّ، فقد كانَ الإحسانُ علامةَ العصرِ الجديدِ. 

    ولذا، إننا اليومَ، وعلى الرغمِ من بساطةِ تعريفِ المرءِ لنفسهِ على أنهُ مؤمنٌ باللهِ ﷻ كليِّ الوجودِ وربِّ المخلوقاتِ كلها، وعملِ الصالحاتِ ونشرِ الإسلامِ (رسالةِ السلامِ) تصبحُ أولويةً عندها. إنها أولى الخطواتِ في حياةِ الإسلامِ، وبعدها سيكونُ علينا الابتسامُ قليلاً. 

    السعادةُ هدفٌ عالميٌ

    إنَّ المحركَ الأساسيَ للإنسانيةِ هوَ تحقيقُ السعادةِ.. وإطالةُ هذهِ السعادةِ بقدرِ المستطاعِ. وهذا يخبرنُا الكثيرَ. بدايةً، يظهرُ لنا أنَّ كلَ الناسِ متشابهونَ في الأصلِ ومتشابهونَ في أهدافِ حياتهمُ. إنَّ ما يفرقنا هوَ الطريقةُ التي نتبعها للوصولِ إلى أهدافنا. 

    معنى الحياةِ

    لتحقيقِ السعادةِ فإنهُ منَ المهمِ معرفةُ معنى الحياةِ بوضوحٍ. إنْ كنَّا قد خلقنا عبثًا ككومة غبارٍ كونيٍ مؤقتٍ، فإنَّ حياةَ البشرَ ومعاناتهم ستذهبُ هدرًا. ومعَ الأسفِ فإنَّ الكثيرَ منَ البشرِ اليومَ لا زالوا يرونَ مغزى الحياةِ كلغزٍ لم يتمَ اكتشافهُ بعد. ولكنَ هذا السرَّ مشروحٌ في القرآنِ الكريمِ وفي الكتبِ السماويةِ من قبلهِ. ولكنْ كم منَ الناسِ قد فهمهُ؟

    وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴿56﴾ – (سورة الذاريات)

    إنَّ خالقَ هذا الكونِ لا يمكنُ تجاهلهُ. فإنَّ السعادةَ متصلةٌ بتحقيقِ الإنسانِ لهدفهِ الأسمى. ولذا فإنَّ البشرَ الذينَ قد وضعوا مغزى حياتهم رهينةً لتحقيقِ رغباتهم وأهوائهم والركضَ وراءَ الآلهةِ الخادعةِ والأحلامِ الماديةِ قبلَ أن يشيخوا أو يموتوا، إنَّ هؤلاءِ الناسَ يفوتونَ الطريقَ السريعَ للسعادةِ. ولكلِّ طريقٍ سريعٍ هناكَ خارطةٌ، وعلاماتٌ تحذيريةٌ وإرشاديةٌ على الطريقِ. 

    النصيحةُ في أزمنةِ الشرِّ 

    إذا ما حاولنا ترجمةَ مصطلحَ “الجنةِ” للحالةِ أو المكانِ الذي ستستطيعُ كلُ روحٍ أن تستمتعَ بالسعادةِ الدائمةِ غيرِ المنتهيةِ حيثِ تتحققُ كلُ الأمنياتِ، فإنَ تعليماتِ الحكمةِ النبويةِ تبدو مرتبطةً بشدةٍ وساطعةِ الوضوحِ. فقد أخبرنا النبيُّ ﷺ فقالَ: كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن أَبَى، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَن يَأْبَى؟ قالَ: مَن أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصَانِي فقَدْ أَبَى.

    ولكنَّ الوصولَ إلى ذلكَ المكانِ ليسَ سهلاً، فإنَّ أحدَ أحاديثِ النبيِّ الخاتمِ ﷺ المذكورةِ في صحيحِ الإمامِ البخاريِ: 

    كانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ الخَيْرِ، وكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلتُ يا رَسولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا في جَاهِلِيَّةٍ وشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بهذا الخَيْرِ، فَهلْ بَعْدَ هذا الخَيْرِ مِن شَرٍّ؟ قالَ: نَعَمْ قُلتُ: وهلْ بَعْدَ ذلكَ الشَّرِّ مِن خَيْرٍ؟ قالَ: نَعَمْ، وفيهِ دَخَنٌ قُلتُ: وما دَخَنُهُ؟ قالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بغيرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ منهمْ وتُنْكِرُ قُلتُ: فَهلْ بَعْدَ ذلكَ الخَيْرِ مِن شَرٍّ؟ قالَ: نَعَمْ، دُعَاةٌ إلى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَن أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقالَ: هُمْ مِن جِلْدَتِنَا، ويَتَكَلَّمُونَ بأَلْسِنَتِنَا قُلتُ: فَما تَأْمُرُنِي إنْ أَدْرَكَنِي ذلكَ؟ قالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وإمَامَهُمْ، قُلتُ: فإنْ لَمْ يَكُنْ لهمْ جَمَاعَةٌ ولَا إمَامٌ؟ قالَ فَاعْتَزِلْ تِلكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، ولو أَنْ تَعَضَّ بأَصْلِ شَجَرَةٍ، حتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وأَنْتَ علَى ذلكَ.

    الإسلامُ هوَ حالةٌ مِنَ العملِ المستمرِ

    لذا، سواءَ كنا نقفُ وحدنا كأفرادٍ نأكلُ لحاءَ الأشجارِ أو كمجتمعاتٍ تدخلُ على الإنترنتِ، هناكَ الكثيرُ يمكننا ويتوجبُ علينا فعله، إنَّ مهمتنا هيَ أن نعكسَ ما نؤمنِ بهِ على حياتنا وأفعالنا. 

    لذَا فإنَّ التعليمَ والمخرجاتِ المعاصرةِ لشبكاتِ الإعلامِ العالميةِ التي قد خلقت حالةً من وهمِ القريةِ العالميةِ، لا بدَّ وأن تعكسَ البعدَ الروحانيَ للحياةِ وإلا سنرى – كما نرى اليوم- البشريةَ تصبحُ مجردةً منَ المغزى والاتجاهِ الصحيحِ. وعندها سنرى الحروبَ والكوارثَ والكثيَر منَ الرفاهياتِ والمسابقاتِ الرياضيةِ واللذائذِ لإلهائنا. 

    الإسلامُ خبَّأهُ المسلمونَ 

    داخلَ ما يدعى اليومَ بالقريةِ العالميةِ، هناكَ الملايينُ منَ الناسِ الذينَ ما زالوا يجهلونَ أبسطَ تعاليمِ الإسلامِ، وبالطبعِ يمكننا استغلالُ بعضِ وقتنا لمساعدتهم ومساعدةِ أنفسنا، لندخلَ مرةً أخرى في هذا القصرِ الكاملِ منَ المعرفةِ والسلامِ، بدلَ من أن نجعلهم يركضونَ بعيدًا عنهُ؟ ونعلمُ أنَّ هناكَ في الولاياتِ المتحدةِ والمملكةِ المتحدةِ وفي كثيرٍ من دولِ العالمِ أيضًا، نعلمُ أنَّ الناسَ يبحثونَ عن الإجاباتِ، يبحثونَ عن العدلِ ويبحثونَ عن السعادةِ، ولكن كما لاحظَ أحدهم مرةً أنَّ الإسلامَ قد خبأهُ المسلمونَ. 

    قصتي واكتشافِ المسلمينَ 

    قالَ النبيُّ ﷺ “بشروا ولا تنفروا”. وعلى الرغمِ من أنَّ قصتي بحدِّ ذاتها كانت قصةَ نجمٍ عالميٍ أو “أيقونةٍ” تكتشفُ الإسلامَ، إنما هيَ جزءٌ صغيرٌ مما قد يحدثُ عندما لا يتمُ عرضُ تعاليمُ الإسلامِ على حقيقتها دونَ تشويهٍ أو عوائقَ، إلا أنني لم أكنْ متهيئًا لما كنتُ على وشكِ اكتشافهِ عن حالةِ المسلمينَ في العالمِ اليومَ. لم أدرك أنَّ بنيةَ المسلمينَ قد فُككَّت، فقد ظننتُ حينها “أليسَ منَ الجميلِ رؤيةِ هذا العددِ منَ الأعلامِ الإسلاميةِ الملونةِ وسماعِ الكثيرِ منَ الأناشيدِ الوطنيةِ المختلفةِ!” 

    تعليمٌ حكيمٌ 

    وعلى قدرِ حظي حينَ اكتشفتُ الإسلامَ، فإني أحمدُ اللهَ ﷻ حمدًا غير منتهٍ فهو الذي أرشدني خلالَ قراءتي للقرآنِ الكريمِ بدايةً، ومن ثمَّ قراءتي لأحاديثِ النبيِّ ﷺ، ومن بعدها حكمةُ المجتهدينَ والعلماءَ المسلمينَ. إنَّ التعليمَ الحكيمَ هو ما يستحقهُ الجميعُ. فالنبيُ ﷺ قد قالَ “مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ”.. 

    حلٌ سريعٌ؟ 

    لسوءِ الحظِ فإنَّ معظمَ المسلمينَ اليومَ قد ولدوا مسلمينَ، ينظرونَ بحسرةٍ إلى أمجادِ المسلمينَ الضائعةَ ويحاولونَ استعادتها بطرقٍ مختصرةٍ وحلولَ سريعةٍ. فإنهم يرونَ الظلمَ حولَ العالمَ ويزيدونَ الطينِ بلةً بنسختهم منَ الدينِ. 

    إنَّ كلَ محاولةٍ لتأسيسِ دولةٍ إسلاميةٍ خلالَ آخرَ مئةِ عامٍ قد منيتِ بالفشلِ. ولربما يكونُ الحلُ في أننا نحتاجُ جميعًا أن نتصرفَ كمسلمينَ جددٍ، نبدأُ منَ الأساساتِ. فمكةُ كانتْ صعبةً، إذ كانَ المسلمونَ يتعرضونَ للظلمِ وفي بعضِ الأحيانِ يعذبونَ أو يقتلونَ، ولكنَّ الصبرَ كانَ جوابَ النبيِّ ﷺ والمؤمنينَ حينئذٍ، ولم ينثنوا أبدًا عن دعوةِ الناسِ للطريقِ إلى الجنةِ. 

    وحتى في البداياتِ، قد أذنِ لمجموعةٍ من ضعفاءِ المسلمينَ أن يعيشوا في ظلِ دولةٍ مسيحيةٍ لئلا تتمَّ ملاحقتهم، فقدموا مثالاً أخلاقيًا وأوصلوا رسالةَ الإسلامِ بكلِ حكمةٍ وشجاعةٍ. 

    ففي القرآنِ الكريمِ، يقول الله ﷻ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿104﴾ كم منَ المسلمينَ يحتذي بهذا الأمرِ اليومَ؟ إذ أنَّ المعروفَ مفهومٌ عالميٌ، ويعني كلَّ تصرفٍ إنسانيٍ وقيمةٍ أخلاقيةٍ نبيلةٍ، ويفعلهُ المسلمونَ وغيرِ المسلمينَ. وكذا المنكرُ، مفهومٌ عالميٌ كما المعروفُ، ولا يفعلهُ غيرُ المسلمينَ فقط، ولا بدَّ من أن نكونَ قادرينَ على انتقادِ أنفسنا إذا ما أردنا أن نكونَ مهديينَ. 

    9/11 و 7/7

    إنَّ فواجعَ الظلمِ التي حدثت في 9/11 و 7/7 إنما تكشفُ عنِ الأفكارِ المشوهةِ والأفعالِ النكراءِ لأولئكَ الذينَ قد ضلوا عن هدي النبيِّ محمدٍ ﷺ، وأعمالهُ في هديِ الإنسانيةِ للسلامِ والسعادةِ. إنَّ النصرَ في الإسلامِ لا ينتجُ عنِ الدمارِ، بل ينتجُ عن المساهمةِ في إدخالِ الناسِ في الدينِ أفواجًا لا أن نجعلهم يهربونَ منهُ!

    طرق التغيير

    إنَّ المكانَ الأولَ لإحقاقِ التغييرِ إنما يكون في أنفسنا، ” إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ۗ”
    (2) فالنبي صلى الله عليه وسلم، “ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بالْمَعْرُوفِ، ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّه أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلا يُسْتَجابُ لَكُمْ.” 

    الإسلامُ عصريٌ 

    إنَّ القرآنَ الكريمَ صالحٌ لكلِ زمانٍ، وفي هذهِ الأيامِ نحتاجُ لأنّ نفهمهُ تبِعًا للوقتِ والظروفِ التي نعيشها، وفي الحقيقةِ إنَّ الإسلامَ هوَ أكثرُ دينٍ عصريٍ للإنسانيةِ، لأنهُ الوحيُ الأخيرُ الذي أوحاهُ اللهُ ﷻ للإنسانيةِ ليهديهم إلى طريقة الحياةِ ليتبعوها. وإنَّ الإسلامَ يؤكدِ على المبادئِ الثابتةِ التي جاءَ بها الوحيُ إلى الأنبياءِ السابقينَ كعيسى وموسى وداوود وإبراهيم عليهمُ السلامُ، كما ويقدمُ أساسًا فكريًا للتطويرِ على القوانينِ والعاداتِ لجعلها مناسبةً لأيِّ زمانٍ وأيِ ظروفٍ قد يجدُ الناسُ أنفسهم محاطينَ بها. 

    أوقاتُ المحنِ

    من يعلم؟، فقد يكونُ هذا الوقتُ هو الوقتُ الذي أخبرنا بهِ رسولُ اللهِ ﷺ حين قال “إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، وفيه: فإن دخل علي بيتي، وبسط يده إلي ليقتلني قال: كن كابن آدم”(3)، يعني أنهُ سيمرُ على الناسِ وقتٌ يكونُ فيهِ أن يموتَ الإنسانِ مقتولاً أفضلَ من أن يدخلَ جهنمَ قاتلاً.

    هذا هو عصرُ الإسلامِ، لا بدَّ وأن نلتزمَ بمسؤولياتنا في إيصالِ هذهِ الرسالةِ العالميةِ للناسِ الذينَ لا يعرفونَ عنها شيئًا، مسلمينَ أو غيرَ مسلمينَ، أي الإنسانيةَ جمعاءَ. أدعو الله ﷻ أن يوحدَ ويباركَ الناسَ الصالحينَ ويمنَّ عليهم بالنجاحِ، إذا ما التزمنا بتحقيقِ دورنا وألا نستعجلَ حكمهُ أو نخسرَ صبرنا. 

    وها نحنُ هنا. إذا ما استطعنا رؤيةَ علاماتِ القريةِ العالميةِ تتشكلُ، فسيكونُ هناكَ مجالٌ لنشرِ روحِ السلامِ، والخيرِ والازدهارِ للجميعِ. حيثُ يتحدُ الناسُ كلهم للخيرِ، كما ذُكِرَ في القرآنِ الحكيمِ:

    وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿148﴾ (4)

    خطابٌ ألقاه يوسف إسلام في أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة في 21 أكتوبر 2005م


    1. القرآن الكريم: سورة آل عمران الآية 104
    2. القرآن الكريم: سورة الرعد الآية 11
    3. الترمذي وسنن أبو داوود
    4. القرآن الكريم: سورة البقرة الآية 148