ما بعدَ النهايةِ

    رحلة الجميع

    ما بعدَ النهايةِ

    لقدْ حانَ الوقتُ لنناقشَ المسألةَ المهمةَ ألا وهيَ ما يكونُ بعد نهايةِ هذا الطريقِ. إنَّ العلمَ والدينَ يتفقانِ سويَّةً على أنّهُ لا بدَّ وأنْ ينتهيَ وجودُ العرقِ البشريِّ على هذا الكوكبِ يومًا ما. إذ أنَّ الخلافَ قد يقعُ حينَ الحديثِ عمَّا بعد ذلكَ، ولكنَّ الأمرَ بالنسبةِ لأولئكَ الذينَ يؤمنونَ بالطريقِ الإلهيِّ محسومٌ، إذ يعلمونَ مُسبقًا أنَّهُ في يومٍ ما – أخفاهُ اللهُ ﷻ ولا يعلمهُ أحدٌ سواهُ – يعلمونَ أنّ كل إنسانٍ سَيُبعثُ مرةً أخرى ويُحاسبُ على أفعالهِ في حياتهِ كلِّهَا. فكلُّ إنسانٍ سيجازى في ذلكَ اليومِ بما عملَ، إمَّا ثوابًا لأعمالهِ الحسنةَ أو عِقابًا لأعمالهِ السيئةَ، إلا أنَّ الذين لا يؤمنونَ بيومِ الحِسابِ سيحاجُّونَ دائمًا: 

    “وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (50)” (13)

    إنَّ فكرةَ الحياةِ الآخرةِ بعيدٌ كلَّ البُعدِ عنْ تجاربِ البشرِ ومعارفهمِ، وإنَّهُ لمنَ الصَّعبِ استيعابُ فكرةَ أنَّ منْ ماتَ جسدهُ ستحيا روحهُ أو أنَّه سيَبعثُ بعدَ مماتهِ بفترةٍ طويلةٍ. وعلى الرغمِ منْ أنَّ العلمَ لا يستطيعُ إنكارَ احتماليةَ الحياةِ بعدَ الموتِ، إلا أنَّ العلمَ – أيضًا – لا يستطيعُ تقديمَ أيَّ دليلٍ يدعمُ ذلكَ.

    وعلى الرغمِ منْ أنَّ الوعيَ بالحياةِ الأخرةِ هو جزءٌ من الإيمانِ بالغيبِ – أيّ ما يتجاوزُ حدودَ التجربةِ الإنسانيّةِ- إلا أنَّه وعيٌّ منطقيٌّ تمامًا. وإذا ما تبنينّا النظريةَ العلميةَ القائلةَ بأنَّ تناغمَ الثوابتَ الكونيةَ هوَ حقيقةٌ حتميةٌ، وأنَّ كلَّ شيءٍ – مهما كانَ صغيرًا أو كبيرًا – له سببٌ أو أثرٌ، أيْ أنّهُ لا يمكنَ لشيءٍ أنْ يحدثَ بلا ردةِ فعلٍ مباشرةٍ أو غيرَ مباشرةٍ عليهِ. وهذا ما يقودنا لمبدأِ التوازنِ الكونيِّ، والذي يقودنا بدورهِ من ناحيةٍ روحانيةٍ إلى الإيمانِ بالعدالةِ الإلهيةِ المطلقةِ الناتجةِ عن وجودِ إلهٍ عادلٍ.

    وبموجبِ هذا القانونِ الذي نلْحظهُ في كلِّ مكانٍ في الكونِ، فإنَّ اللهَ ﷻ لن يتركَ من يعملُ الحسناتِ دونَ ثوابٍ ولا من يعملُ السيئاتِ أن يبقى دونَ عقابٍ أو حسابٍ.

    الملايينُ منَ الصالحينَ يُظلمونَ ويُضطهدونَ في الدُّنيا ولا يجازونَ بما يستحقونَ من ثوابٍ. وكذلكَ الملايينَ منَ الذينَ يرتكبونَ الخطايا، المضطهِدينَ والقتلةِ والطغاةِ الذين عاشوا وماتوا بلا عقوبةٍ في هذه الدنيا. فإنّهُ لا يليقُ بالإلهِ العادلِ مُطلقَ القوةِ أن يتركَ مرتكبي الخطايا دونَ عاقبةٍ لأعمالهمُ ولا يمكنَ أنْ يتركَ الصالحينَ دونَ ثوابٍ، فلا بدَّ من وجودَ بُعدٍ آخرٍ حيثُ تَحِلُّ العدالةُ الإلهيةُ محلّهَا.

    “يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) “ (14)

    إنَّ الإيمانَ المشتركَ بينَ كلِّ الأديانِ التوحيديةِ الكُبرىَ هو الإيمانُ بالحياةِ الأخرةِ وهو في حقيقةِ الأمرِ أحدُ أقوى العواملَ المشتركةِ التي توحدنَا بغضِّ النظرِ عن الخلفيةِ الدينيةِ التي تأتي منها. 

    “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ” (15)

    إنَّ الوجهةَ الأخيرةَ لكلِ روحٍ في يومِ القيامةِ هوَ أمرٌ يعلمهُ اللهُ ﷻ وحدهُ، ولكنَّنا محثوثونَ بغضِّ النظرِ عن كثرةِ أخطاءنا أن نطلبَ رحمةَ الله ﷻ الواسعةَ وعفوهِ.

    لن يكونَ لأحدٍ أن يشفعَ لأحدٍ دونَ إذنِ اللهِ ﷻ، ولكننّا نعلمُ بأنَّ اللهَ ﷻ سيسمعُ لأنبيائهِ نيابةً عن أقوامهم، ولذا يجدرُ بنا أنَّ نؤمنَ بكلِّ أنبياءِ اللهِ ﷻ وأن لا نُفِرَّقَ بين أحدٍ منهم، فقد بُعثوا ليبِّشروا الناسَ برسالةِ الوحدةِ والأُخوَّةِ وقدّ توُجت تلكَ الرسالةُ ببعثة النبّيِّ الخاتمِ محمدِ ﷺ الذي كانت تعاليمهُ واضحةً ومكملةً ومؤكدةً لما بلَّغَ بهِ الأنبياءُ من قبلهِ من تعاليمِ الإيمانِ وعملِ الصالحاتِ.

    “يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (16)” (16)

    إنَّ الثوابَ الحقَّ الذي يُعطيهُ اللهُ ﷻ لعبادهِ هو الجنّةُ: دارُ النِّعمَ الأبديةِ. حيث يكونُ لكلِّ نفسٍ فرصةَ أن تستمتعَ بكل ما تتمناهُ، بلا تناقصٍ للمتعةِ. حيثُ متعةُ الطعامِ والشرابِ، والصداقةِ والحبِّ ستتزايدُ متعتها بلا عواقبَ سيئةٍ، إنَّهُ المكانُ الذي سيكونُ فيهِ كل شيءٍ كما تتمناهُ، وليسَ لأحدٍ أن يُنغَّصَ سعادتكَ أو أن يهددّها. وكما قال النبيُّ الخاتمُ ﷺ ” واللَّهِ ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلَّا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إصْبَعَهُ هذِه، وأَشارَ يَحْيَى بالسَّبَّابَةِ، في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ تَرْجِعُ؟”(17). وبالمقابلِ فإنَّ العذابَ في الحياةِ الآخرةِ لا يتمنّاهُ أيُّ أحدٍ، فإنَّ الفشلَ في أداءِ أوامرِ اللهِ والامتناعِ عن طاعتهِ أو التوبةِ من الذنوبِ سيؤدّي لغضبِ اللهِ ﷻ وللبقاءِ الأبدّيِّ في الجحيمِ. إنَّ السببَ الرئيسيَّ لألّا ينجحَ الناسُ في النّجاةِ من هذه النّهايةِ هو إهمالُ فهمِ رسالةِ هذهِ الحياةِ التّي أوْضَحها لنا الرُسلُ والأنبياءُ الكرامُ: “إن الدنيا قد ارتحلت مُدبِرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مُقبِلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل” (18)

    يوسف إسلام
    رمضان 1427 ه / سبتمبر 2006م


    المراجع

    1. القرآن الكريم: سورةُ الواقعة، الآيات: 47-50.
    2. القرآن الكريم: سورةُ الزلزلة، الآيات: 6-8.
    3. القرآن الكريم: سورةُ البقرة، الآية: 62. 
    4. القرآن الكريم: سورةُ المائدة، الآيات: 15-16.
    5. صحيحُ مسلم. 
    6. علي بن أبي طالب رضي الله عنه.